
من واد بهت بالخمسات إلى واد لاو بتطوان اكتشافات مذهلة تهز المسلمات العلمية
حسن كجوط ـ الرباط
شهد المغرب في العقود الأخيرة قفزة نوعية في مجال علم الآثار، إذ أسفرت جهود الباحثين المغاربة والأجانب عن اكتشافات غير مسبوقة تعود إلى فترات ما قبل التاريخ. ورغم حداثة المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث (INSAP) الذي تأسس عام 1985، وندرة الباحثين مقارنة بدول أخرى، فإن المغرب تمكن من تحقيق إنجازات استثنائية تعيد رسم ملامح التاريخ في المنطقة.
أحد أهم هذه الاكتشافات جاء في وادي بهت بإقليم الخميسات، حيث عثر على أقدم وأكبر مركب زراعي في إفريقيا، يعود إلى الفترة ما بين 3400 و2900 قبل الميلاد، وهو ما نشر في المجلة العلمية الدولية Antiquity ضمن بحث قاده عالم الآثار يوسف بوكبوط وفريقه من العلماء المغاربة والأجانب. واليوم، يطل علينا الباحث نفسه، رفقة طالبه في سلك الدكتوراه حمزة بنعطية وطلبة المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، وباحثين إسبانيين بقيادة البروفيسور خورخي أونروبيا بينتادو، بإعلان اكتشاف جديد في منطقة كشكوش بوادي لاو بإقليم تطوان، يحمل في طياته معطيات قد تحدث ثورة في فهم تاريخ المغرب وشمال إفريقيا.
اكتشاف موقع كشكوش يعود إلى عام 1988 حين قامت بعثة أثرية مغربية-إسبانية بتحديده، تلتها حفريات أولية عام 1992 كشفت عن مستوطنة تعود إلى القرن الثامن إلى السادس قبل الميلاد، تتكون من منازل طينية وحفر صخرية وأدوات زراعية. لكن الأبحاث لم تتوقف عند هذا الحد، إذ استأنف فريق من الباحثين الشباب أعمال التنقيب في الموقع عام 2021 بهدف فهم طبيعة الاستيطان وهندسته المعمارية، واستكشاف التطور الاقتصادي والمعيشي لسكانه.
وبعد ثلاثة عقود من البحث، نشر الفريق اليوم في مجلة Antiquity نتائج غير مسبوقة كشفت عن أول قرية ما قبل تاريخية من العصر البرونزي في منطقة المغرب الكبير، يعود تاريخها إلى الفترة بين 2200 و600 قبل الميلاد. هذه النتائج تثبت أن الأمازيغ استوطنوا المنطقة قبل ظهور الفينيقيين في شمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط.
الأبحاث أكدت أن سكان هذه القرية مارسوا الزراعة وتربية الماشية، كما أقاموا علاقات تجارية وثقافية مع مجتمعات البحر الأبيض المتوسط والصحراء الكبرى، مما يدل على وجود اقتصاد زراعي متطور. هذه الاكتشافات تدحض الروايات التاريخية التي زعمت أن شمال إفريقيا كان أرضا شبه خالية من الحضارات في الفترات ما قبل التاريخ، و ستفند سرديات بعض المؤرخين الذين يسعون الى حشر ثقافة الفينيقيين وشرعنة وجودهم بشمال أفريقيا، دون سند علمي ومرجع تاريخي، وتعيد الاعتبار للدور الريادي للأمازيغ في تاريخ المنطقة، موضحة أنهم كانوا على تواصل مع العالم المتوسطي منذ فترات أقدم بكثير مما كان يعتقد.
الباحث يوسف بوكبوط، رفقة فريقه من العلماء المغاربة والإسبان، يواصلون عمليات التنقيب في نفس المنطقة على أمل العثور على مزيد من الأدلة التي تلقي الضوء على العصر البرونزي في المغرب. ومع كل اكتشاف جديد، يتأكد أن أرض المغرب لا تزال تخفي أسرارا كثيرة، وأن التاريخ بحاجة إلى إعادة قراءته استنادا إلى الحقائق العلمية لا الروايات التقليدية.
هذه الاكتشافات ليست سوى بداية لسلسلة من الأبحاث التي قد تعيد رسم خريطة تاريخ المنطقة، وتؤكد أن المغرب كان مركزا حضاريا مؤثرا منذ فجر التاريخ. ومع استمرار الجهود الأثرية، قد تحمل السنوات القادمة مفاجآت جديدة ستغير نظرتنا إلى ماضي المغرب وشمال إفريقيا وحضارتهم القديمة